فرضت الجغرافيا على مصر أن تكون مياة نهر النيل منبع حضارتها، ومياة البحر سببا لتكون قوة عظمى في محيطها الإقليمي أو بوابة للاعتداء عليها ، واليوم يتصاعد التوتر في مياة شرق البحر المتوسط في ظل تدخل تركيا في ليبيا عبر البحر، وبتبجحها في المياه الاقليمية القبرصية بعد أن أطلقت أربع سفن للتنقيب عن الغاز منذ عامين وهم سفن “سليم الأول” و “الفاتح” و “خير الدين بربروس” وأخيرا “عوروج ريس”، وأسماء السفن تشرح دلالات تاريخية وسياسية لا أول لها ولا آخر، وتنذر بشكل الصدام المنتظر الذي ينتظره التاريخ كل بضعة قرون بين ضفتي شرق المتوسط.
وسواء ما يحدث في ليبيا أو في مياه قبرص الاقتصادية فكلاهما يؤثر على الأمن القومي المصري بشكل مباشر، فلشرق المتوسط أهمية خاصة لمصر، فكان خير شاهدا على عصور مصر العظمى، ومنها أيضا تسلل الغازي والمحتل لكي يرسو على شواطئها، ولأن التاريخ يعيد نفسه فكان علينا قراءة ثلاثة محطات هامة بشرق المتوسط غيرت من بعدها التاريخ وكانت مصر كلمة السر بها، وتشرح بالتجربة طبيعة الصراع بشرق المتوسط وأهمية تلك الرقعة لمصر.
والمحطة التاريخية الأولى جاءت في 1175 ق.م مع أول معركة بحرية بالتاريخ، وهي “معركة الدلتا” التى نشبت بين الجيش المصري بقيادة رمسيس الثالث وجيش جرار أطلق عليه أسم “شعوب البحر المتوسط” .
فمع العام الخامس لحكم مؤسس الأسرة العشرين رمسيس الثالث كان جيش “شعوب البحر المتوسط” قد قضى على دولة الحيثيين وما حولها من دول آسيا، ثم استولى على جزيرة قبرص، وسيطر على كامل سواحل الشام وفلسطين وبات على أعتاب مصر من البر والبحر، فأعد لهم رمسيس الثالث أسطولا عظيما بالبحر وقوات ضخمة بالبر حتى تفاجئ هولاء بمباغتة المصريين لهم، فانتهى أمرهم برا في فلسطين وبحرا على السواحل الشرقية للدلتا، وسجلت وقائع أول معركة بحرية بالتاريخ على جدران معبد رمسيس الثالث الجنائزي بمدينة هابو (غرب الأقصر).
ومن بعدها تداركت الدول المطلة على البحر المتوسط أهمية السفن كسلاح في المعارك، وتتعامل بحذر شديد في المتوسط أن فكرت في ركوب أمواجه وكأنها مدت يدها في نهر النيل، بعد أن شهد الجميع ردة فعل مصر.
أما المحطة التاريخية الثانية فقد جاءت في العام 34هـ /655م، فبعد أن كشرت الامبروطورية الوليدة في الشرق عن أنيابها عزم العرب المسلمون علي إنشاء أسطول بحري كي يمنحهم الغلبة فى مياة البحر المتوسط، بعد أن أدركوا أن لا مفر أمام طموحهم الجامح من الإصطدام مع البيزنطيين المسيطرين على بحر الروم (المتوسط).
فسعت الإمبراطورية البيزنطية لإجهاض حصول المسلمون على الأخشاب التى تصنع منها السفن بعد أن تمكن المسلمون من غزو قبرص، وقبل أن يوجه المسلمون بوصلتهم نحو القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية نفسها، فكان خشب غابات السرو التى تصنع منه السفن بذلك الوقت كحال النفط والغاز بالخليج حاليا سببا للحروب والصراعات.
ولأن مصر قوة ضاربة وقيمة مضافة لاى قوة عظمى فكانت تمثل الثقل العسكري والاستراتيجي للعرب المسلمون، ففي ذلك العصر كانت مصر أكثر دول المنطقة تحضرا، ولا ننسى أنها كانت سلة الغذاء للامبراطورية الرومانية ومركز ثقل روما فى الشرق وأفريقيا قبل أن تكون القلب النابض للأمة الجديدة والشريان الذي سيمد شعوب الجزيرة العربية بكل مظاهر الحياة فيما بعد، بداية من كسوة الكعبة المشرفة المصنوعة من النسيج القباطي، مرورا بالغذاء والأقمشة والأعشاب الطبية وصولا لكل ما وصل للجزيرة من علوم الدنيا ثم علوم الدين فيما بعد، فكان الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه يعول على الأسكندرية بشدة لتطلق مد المسلمون في البحر بحكم موقعها على المتوسط وخبرة أقباطها في صناعة السفن وركوب الأمواج، ولذلك أسرع العرب في تثبيت أركان حكمهم في مصر بعد أن عزم البيزنطيين على إستردادها من العرب.
وعندما أدرك والي مصر عبد الله بن سعد بن أبى السرح ضخامة أسطول قسطنطين عند مواجهة أسطول البيزنطيين، جلس مع رجاله يستشيرهم ويسألهم، قائلا :”لقد بلغني أن قسطنطين قد أقبل إلينا في ألف مركب، فأشيروا علي ما أفعله؟
فلم يجيبه أو ينطق أحد، فكرر السؤال ثانيا وأيضا لم يجيبه أحد، ثم كرر السؤال ثالثا، فنطق رجل من أهل المدينة كان متطوعاً مع عبد الله بن سعد، قائلا :”أيها الأمير إن الله جل ثناؤه يقول كم من فئةٍ قليلةٍ غلبتْ فئةً كثيرةً بإذن اللهِ والله مع الصابرين”
فقال والي مصر : “اركبوا بأسم الله”
وأستعد الطرفين حتى جاءت لحظة الحشد للمواجهة المباشرة على ساحل ليكيا (الأناضول)، فخرج أسطول البيزنطيين الضخم الذى لم يجمع الروم مثله بقيادة ملكهم قسطنطين الثاني خليفة هرقل بألف سفينة، بينما حضر العرب المسلمون بمئتي سفينة بقيادة والي مصر عبد الله بن سعد، وبدأ القتال بين سفن الطرفين عبر رماه السهام والحجارة وعندما نفذت وأقتربت سفن الطرفين الى المسافة صفر ربط المسلمون سفنهم بسفن البيزنطيين وبدأ قتال هو الأشرس بالسيوف فوق سفن الطرفين وكانت الغلبة لسيوف العرب، فأنهزم قسطنطين جريحاً ولم ينجُ من الروم إلا من فر بجلده منهزما بعد أن سقط منهم ما لا يحصى عددا.
وسميت هذه المعركة بـ “ذات الصواري” لكثرة عدد صواري السفن التي اشتركت فيها من الجانبين، ومثلت “ذات الصواري” نهاية سيطرة الدولة البيزنطية على البحر المتوسط، بعد أن فرض العرب المسلمون واقعا جديدا على تلك المنطقة في أول معركة بحرية لهم (نقول معركة بحرية أي بين سفن من الجانبين وليس إنزال بحري كالذي أقدم عليه المسلمون بعد أن نزلوا الى سواحل قبرص عام 28هـ/ 648م)، ومن يومها صارت مصر رأس حربة للمسلمون الأوائل، وحجر الزاوية لأي مشروع توسعي لهم.
ويطلق أسم “ذات الصواري” على أشهر المناورات التى تنفذها البحرية المصرية من حين لأخر.
أما المحطة التاريخية الثالثة فجاءت في عام 829هـ/ 1426م، فبعد أن تم تطهير بلاد العرب من أخر ما تبقى من الأوروبيين على يد المماليك، وعاد منهم من عاد من حيث أتى بينما هناك من مكث فى نقطة المنتصف بين الشرق والغرب ألا وهي جزيرة قبرص على أمل العودة للشام مجددا في ظل تردي الأوضاع في أوروبا، وعلى يد هولاء بدأت أعمال القرصنة تنطلق من قبرص ضد سفن المماليك بموانئ الأسكندرية ودمياط من حين لأخر، الى أن جاء عام 767 هــ /1365م ليشهد التطور الأكبر والأخطر عندما شن ملك قبرص بطرس الأول غارة على الإسكندرية وأرتكب جنوده في حق أهلها الفظائع.
وكان بطرس الأول يتباهي أمام نظرائه الأوروبيين بما ارتكبه ضد مصر التى مثلت وقتها عقدة لكل ملوك أوروبا سواء في الحقبة الفاطمية أو الأيوبية أو المملوكية، فمصر وقتها قضت على كل امبراطوريات وممالك الأرض التى جاءت لتغزو بلاد العرب، بداية بالجيش الفرنسي بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا الذي سحق في مدينة المنصورة المصرية، مرورا بإنهاء الخطر المغولي الذي دمر الأرض في عين جالوت، وهزيمة سائر جيوش أوروبا التى غزت الشام خلال الحملات الصليبية، وصولا لهزيمة البرتغالين على سواحل الحجاز والهند.
وبعد مرور ستة عقود على حمقات بطرس الأكبر وتولي جانوس جاك بيدرو حكم قبرص كرر جانوس ما فعله سلفه، وفشلت مصر في عقد هدنة مع قبرص بعد أن تملك الأخيرة الغرور، حتى بلغ إلى سلطان مصر الثاني والثلاثون في ترتيب سلاطين دولة المماليك الأشرف سيف الدين برسباى أن القبارصة قد هاجموا أربع سفن مصرية وأغرقوها، فعزم برسباي على الخروج من حالة السكون بعد أن فاض به الكيل من حماقات القبارصة، فشد كل من الأمير تغردي المحمودي وإينال الجكمي الرحال من ميناء الإسكندرية على رأس حملة صغيرة بمجموعة من السفن متجهين لقبرص في 827هـ/1424م، حتى نزلت ميناء “ليماسول” وأحرقت ثلاث سفن قبرصية كانت تستعد للقرصنة على سفن العرب، ثم عادت الحملة الصغيرة إلى القاهرة بعد أن حققت هدفها الأول وهو توجية رسالة للعدو بأن قواعد الإشتباك تغيرت وصارت القاعدة هي “العين بالعين”، والهدف الثاني وهو بالون أختبار لمعرفة قدرات الجيش القبرصي في وضع الدفاع على أرضه.
وعلى أثر نتائج تلك المعركة تشجع المصريون على إعداد حملة أقوى من ما سابقتها لغزو قبرص، فخرجت الحملة الثانية في العام التالي مكونة من أربعين سفينة، واتجهت إلى الشام ومنها إلى قبرص ثم نزلت على مدينة “ليماسول” وبعد قتال مرير سيطروا على قلعتها تماما، وقُتل المماليك نحو خمسة آلاف قبرصي، وعادوا إلى القاهرة ومعهم ألف أسير، فضلاً عن الغنائم التي حُملت على الجمال والبغال.
وعلى أثر ما حققته الحملة الثانية عزم الأشرف برسباي على توجيه الضربة القاضية لقبرص، فأعد حملة ثالثة تستهدف إعادة إخضاع كامل جزيرة قبرص الى سلطة القاهرة، فأبحرت مئة وثمانون سفينة من الأسكندرية في العام التالي أي في 829هـ/1426م، فوصل الجيش المصري في أواخر شعبان الى نفس نقطة أنطلاق كل معركة هناك عبر “ليماسول” وتم هدم قلعتها بعد أن قتل كل القبارصة المتحصنين بها، ومع أول يوم رمضان انقسم الجيش المصري إلى فرقتين واحدة برية وأخرى بحرية.
ثم جاء ملك قبرص جانوس على رأس جيش ضخم جدا مدعوم من كافة أوروبا، فدارت أم المعارك بين مصر وجموع الأوروبيين، فسحقهم المصريون جميعا، ثم زحف الأشرف برسباي بجيشه نحو العاصمة نيقوسيا، ولم يقف في طريق المصريون أحد إلا وأنتهى أمره في الحال.
حتى رفع المماليك راية دولتهم فوق العاصمة معلنين بذلك سيطرتهم على كامل جزيرة قبرص، وعاد الجيش المصري للقاهرة في الثامن من شوال 829هـ/1426م، ومعهم أكثر من 3700 أسيرا على رأسهم ملك قبرص نفسه جانوس وأمراؤه، وكان في أنتظار الجيش جموع الشعب لتحتفل به، فطاف الجيش كافة شوارع المحروسة وصوت التكبير والزغاريد تضجّ في كل مكان في مشهد مهيب ومعهم رسل كل من شريف مكة بركات بن عجلان، والسلطان العثماني مراد الثاني (والد السلطان محمد الفاتح)، والسلطان التونسي الحفصي أبو فارس عبد العزيز والذين قد حضروا جميعا للقاهرة لتهنئة سلطان مصر.
ثم أمر السلطان الأشرف بإُحضار الملك جانوس على حمار وهو مقيد بالسلاسل وإدخاله على بقية الأسرى القبارصة، فصرخوا من الدهشة وقاموا بإلقاء التراب على رؤوسهم من الحسرة، قبل أن يفدي الملك نفسه بعد أن قام بتقبيل قدم السلطان وموافقته على أن تتبع قبرص دولة المماليك العظمى، حتى أطلق السلطان الأشرف سراحه وأرجعه إلى بلاده مرغماً إياه على دفع جزية سنوية ضخمة لمصر مقابل استمرار تابعية قبرص لمصر، كي تبقى قبرص ولاية تابعة لمصر حتى غزو العثمانيون لمصر في 26يناير1715م، وكي يلقب برسباي بسلطان البرين (مصر والشام) والبحرين (الأحمر والمتوسط) وكي تكون لمصر سلطة مطلقة في شرق المتوسط، وتكمل مسلسل تصدير الرعب لكل أوروبي تسول له نفسه غزو الشرق.
وسيزداد إندهاشكم عندما تعلموا أن السلطان الأشرف برسباي بعد أن قضى سبعة عشر عاما في الحكم توفى في 841هـ/1437م بمنزلة في مدينة لم يسمع أغلبنا عنها إلا منذ أسابيع قليلة بعد أن صارت تلك المدينة محور الأحداث وهي مدينة “سراقب” السورية، وكأن برسباي في حياتة برهن لنا على أهمية أمن مصر القومي في شرق المتوسط، وفي مماتة على ضرورة الوحدة مع سوريا، ولكم أن تتخيلوا كم التضحيات التى قدمتها مصر والحروب التى خاضتها سواء في العهد الأيوبي أو المملوكي أو ما بعده سواء ضد السلاجقة أو التتر أو التركمان أو الصليبيون للحفاظ على استقلال الشام ولمنع وصول البرتغالي الى مكة والمدينة.
أذا بعد سردنا لثلاث معارك توضح مراحل هامة بتاريخ شرق المتوسط نستنتج الاتي :
من الحرب الأولى نستنتج أن أمن مصر القومي مرتبط بكل ما يحدث بدول شرق المتوسط، فمنذ فجر التاريخ وكلما تعرضت شعوب تلك المنطقة لجوع كان لا طريق أمامها سوى مصر، وكلما سعى زعماء تلك الدول لتأسيس امبراطورية كان عليهم تشييدها على حساب مصر، إذن شرق المتوسط لا يقبل القسمة على أثنين ولا يتحمل قوتين معا.
ومن الحرب الثانية نستنتج أن شكل خريطة النفوذ في شرق المتوسط مرهون بحال مصر، ففي قوتها أنتصرت للعرب، كما غيرت إعراب “بحر الروم” في كل الخرائط، وفي ضعفها صارت سواحلها وسواحل الشام وفلسطين وشمال أفريقيا مستباحة أمام أي غازي.
ومن الحرب الثالثة نستنتج أن لا دولة عظمى في الأقليم إلا ويجب أن تكون متفوقة بإكتساح في شرق المتوسط، وحروب السلطان برسباي ومن بعده إبراهيم باشا في قبرص واليونان كانت خير دليل على ذلك، فما كان لإبراهيم باشا أن يتجرأ على الدولة العثمانية نفسها وهي في أوج قوتها وينتصر عليها في عقر دارها إلا بعد أن ذاق النصر مع جيش الفلاحين (الجيش المصري) في اليونان وقبرص وكريت، وما كان لبني عثمان امبراطورية إلا بعد أن سيطروا على البحر المتوسط.
ومن هنا أيضا كانت أحد أسباب تركيا في إحتلال شمال قبرص يوليو1974م، فلو شبهنا منطقة شرق المتوسط بملعب كورة القدم، فقبرص وكريت هم خط الوسط، وكما نعلم من يسيطر على خط وسط الملعب يكون له الأفضلية في نسبة الإستحواذ، ومن يكون له الإستحواذ يكون له الأفضلية فى القدرة على تسجيل الأهداف.
ففي الماضي استدعي شرق المتوسط مصر للدفاع عن استقرارها، واليوم يستدعيها مرة أخرى للدفاع عن أستقرارها واستقرار شمال أفريقيا بالكامل وليس ليبيا فقط، بعد أن فتحت تونس سواحلها للغازي التركي كي ينطلق منها نحو ليبيا، واليوم صراع النفوذ في شرق المتوسط بات يحمل أبعادا جديد بعد أكتشافات الغاز، في ظل السباق الشرس بين مصر وتركيا وإسرائيل لمن يصل بغازه الى أوروبا قبل الأخر سواء كانوا دول ممر أو منتجة للغاز، ومن هنا يتضح جانب أخر للوجود التركي في ليبيا الغنية بالنفط والغاز، وسر السياسة الروسية في تعاملها مع كل من قمتي الأضداد بالمنطقة تركيا ومصر، والتى قد تبدو غريبة للبعض.
فادي عيد
الباحث والمحلل السياسي لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
fady.world86@gmail.com