خلال أسبوع واحد كانت ثلاث عواصم أوروبية كبرى ، برلين ـ لندن ـ باريس فى مواجهة مع التطرف والإرهاب المحتمل ،فى هذه المواجهة وضعت العواصم الأوروبية الثلاث أمنها القومى وسلامة مواطنيها كأولوية فوق أى أعتبار.
توارت أمام هذه الأولوية وأعتبارات السلامة للمواطن كل ألاعيب السياسة والحيل والشعارات التى تستخدم فى الخارج ولاتصلح للداخل الأوروبى المهدد بعنف التطرف وبدلا من هذه الشعوذة السياسية ظهر وجه الدولة القوى ومؤسساتها التنفيذية والقضائية والتشريعية فى مواجهة شراسة التطرف ودموية الإرهاب .
تحرك الدولة بمؤسساتها فى العواصم الثلاث لم يكن ناتج عن أحداث إرهابية وقعت فى الحال بل كانت كلها تحركات استباقية للقضاء على خطر إرهابى محتمل ،لم تجد العواصم الثلاث فى هذا التحرك الاستباقى أى أنتقاص من فكرة حقوق الأنسان أو رأت أن هذا الفعل يعادى الحريات التى يتمتع بها مواطنيها ،فالقاعدة التى بنت عليها العواصم الثلاث حركتها كان هدفها الأول حماية حق المواطن فى العيش بأمان والتمتع بحريته دون خوف أو تهديد .
نتابع التحرك الأول الذى كان فى العاصمة الألمانية برلين ،قبل أيام استيقظت برلين فجرا على أكبر عملية مداهمات قامت بها قوات الشرطة الألمانية وأشترك فيها مايزيد عن 850 ضابط وجندى من أجل ألقاء القبض على أعضاء جماعة سلفية متطرفة تدعى ” توحيد برلين ” داهمت القوات الألمانية 26 من المنشآت والمقرات والشقق الخاصة بهذه الجماعة.
أعتقلت القوات الألمانية العشرات من المنتمين ل”توحيد برلين” وصادرت هواتف محمولة وأجهزة كمبيوتر ووثائق وأقراص مدمجة تخص أعضاء هذه الجماعة وصدر مع عمليات المداهمات قرار فورى بحظر “توحيد برلين” .
بدأت عمليات استجواب ضخمة لكل المقبوض عليهم وهم ألمان أو يحملون الجنسية الألمانية من قبل “هيئة حماية الدستور ” أو المخابرات الداخلية الألمانية وهو الجهاز الأمنى الذى كان يراقب نشاط أعضاء “توحيد برلين”.
يعطى حجم المداهمات والقوات المشاركة فيها أنطباع أولى بأن هذه الجماعة المتطرفة شنت أو شاركت فى عمليات إرهابية على الأراضى الألمانية ، هؤلاء المتطرفون لم يقوموا بعمليات إرهابية فعلية لكن الدولة الألمانية استشعرت أنهم قد يهددون أمنها وأمن مواطنيها فحظرتهم وأعتقلتهم ،هذا الأستشعار بالخطر أوضحته تصريحات المسؤلين الألمان ولم يتردد هؤلاء المسؤلون فى أتخاذ القرار الرادع عندما بدأ يظهر أمامهم تهديد محتمل للأمن القومى وسلامة المواطنين الألمان ولعل تصريحات المسؤلين الألمان تبين أن حماية الدولة والمواطنين فوق أى أمر أخر .
فأعلن وزير داخلية ولاية برلين أندرياس جايزل ” نحن لا نتسامح مع المساحات التي يجري فيها نشر الإرهاب وتمجيد ما يسمى داعش”أما رئيس نقابة الشرطة نوربرت سيوما فقال”من المهم القضاء بشدة على أى إمكانات متطرفة في مهدها ” وعن الأسباب والأدلة التى دعت الأجهزة الألمانية تتحرك بهذه القوة ضد جماعة “توحيد برلين” فأوضحها وكيل وزارة الداخلية المحلية ببرلين تورستن أكمان “الجماعة التي تم حظرها اليوم تتبع من الناحية الأيدولوجية تنظيم داعش و أفراد الجماعة كانوا يلتقون بشكل دورى في شقق خاصة وفى متنزهات عامة ونشروا دعواتهم عبر يوتيوب وإنستجرام وقاموا أيضا بتوزيع كتيبات”
من أجل هذه الأسباب والأدلة تحركت الدولة الألمانية وأجهزتها الأمنية بكامل طاقتها ضد التطرف ودعاة الإرهاب فحظرت واعتقلت ولم تسامح كل هؤلاء المتطرفين كما قال المسؤلين الألمان فى تصريحاتهم ،لكن ألا يتشابه مافعلته “توحيد برلين ” مع ماتفعله أم الإرهاب جماعة الأخوان الفاشية التى يقوم المنتمين أليها بالتحريض على الدول ونشر الشائعات وتهديد سلامة وأمن المواطنين يوميا هذا غير مئات العمليات الإرهابية التى نفذها الإرهابيون الأخوان وراح ضحيتها الأبرياء ،المفارقة أن “توحيد برلين ” لاتمتلك فضائيات كما الفاشيست الأخوان تبث سمومها يوميا ضد أمن الوطن والمواطن أو يتحرك أعضائها بحرية بين العواصم التى تمول الإرهاب وتؤى الإرهابيين …لانعلم كيف سيكون رد فعل الدولة الألمانية لو مثلا أمتلكت “توحيد برلين” هذه فضائية وحرضت بشكل علنى على الدولة ورجال الأمن أوتلقى أعضائها تمويل وتحركوا فى عواصم الإرهاب ؟.
لقد تحرك أكثر من 850 ضابط وجندى ألمانى فجرا ليعتقلوا أعضاء جماعة”توحيد برلين ” هذه لأنهم ألتقوا فى شقق ومنتزهات عامة وأشتم الأمن الألمانى من وراء هذه اللقاءات وجود خطر ما على الدولة الألمانية وسلامة المواطنين .
بالتأكيد لن نجد أى تعليق من أصحاب دكاكين مايسمى بحقوق الأنسان تجاه ماقامت به الدولة الألمانية وهو بلاشك حق كامل لها لحماية مواطنيها معتبرينه أنتقاص من حرية المواطن الألمانى المقهور،لن نجد أى تعليق لسبب بسيط لأنه لايوجد من يدفع للدكاكين مقابل مهاجمة ألمانيا.
نترك برلين ونذهب الى لندن ،فى عاصمة الضباب كانت أعلى سلطة قضائية بريطانية تعلى من نفس القيمة التى تحققت فى برلين وهى حماية الدولة والمواطن من أى خطر إرهابى محتمل ،هذا الخطر الإرهابى المحتمل الذى واجهته بريطانيا هو “شيموم بيجوم” فتاة بريطانية من أصل بنجالى سافرت الى سوريا قبل 5أعوام وهى فى الخامسة عشر أى فى عمر الطفولة وبالكاد المراهقة .
ألتحقت “شيموم” بداعش وتزوجت من داعشى هولندى قتل أثناء المعارك وتم ألقاء القبض عليها فى سوريا وعندما طالبت بالعودة الى بريطانيا لأنها مواطنة بريطانية رفضت الحكومة البريطانية عودتها ولم تكتف بهذا بل سحبت منها الجنسية البريطانية لأنها خطر على الأمن القومى البريطانى ،رفع ذوى شيموم بيجوم دعوى قضائية أمام المحاكم البريطانية لأجل أن تسترد بيجوم جنسيتها المسحوبة وحسب القانون البريطانى يجب أن يأتى رافع الدعوى القضائية بنفسه أمام القضاء.
سمحت أحدى درجات التقاضى فى الدعوى بعودتها وهنا تدخلت وزارة الداخلية ممثلة للحكومة البريطانية للطعن فى قرارعودة بيجوم ووصلت الدعوى الى أعلى سلطة قضائية أو المحكمة العليا التى يرأسها اللورد روبرت ريد
تقدم السير جيمس إيدى نائبا عن الحكومة البريطانية الى جلسة الاستماع التى حددتها المحكمة العليا قبل الفصل فى القضية وأوضح موقف حكومته دون أى تفاصيل أوأسباب غير سبب واحد قاله فى مرافعته إن بيجوم هى تهديد حقيقى للأمن القومي و إن جهاز المخابرات الداخلى البريطانى MI5)) أخبر وزيرالداخلية فى عام 2019 بأن بيجوم عضو فى داعش وسيتم تفادى المخاطر التى تشكلها على الأمن عندما تحرم من جنسيتها
أصدر اللورد روبرت ريد رئيس المحكمة العليا أعلى سلطة قضائية بريطانية حكمه فى القضية ولنرى تفاصيل الحكم ولأى قيمة أنحازت المحكمة العليا البريطانية
تسمح المحكمة العليا باستئناف وزارة الداخلية ولا تجيز ذلك للسيدة بيجوم
إن المحكمة (المقصود المحكمة التى سمحت بالعودة ) لم تعطِ قرار وزير الداخلية الاحترام الذي كان ينبغي أن يحظى به لأن وزير الداخلية تم منحه مسئولية إجراء تقييمات للأمن القومي.
أجرت المحكمة (نفس المحكمة التى أجازت العودة ) تقييمها الخاص لمتطلبات الأمن القومى وفضلته على تقييم وزير الداخلية رغم عدم وجود أي دليل ذى صلة معروض أمامها
نأتى للسبب الأخير الذى أرتأته المحكمة العليا البريطانية لعدم عودة بيجوم أو مناقشة موضوع سحب جنسيتها وهو يوضح طبيعة الفكر القضائى البريطانى وأى الأولويات يضعها فى المقام الأول
أن الحق في محاكمة عادلة ليس مقدماً ولايتفوق على كل الاعتبارات الأخرى مثل سلامة الناس والمجتمع و إذا كانت المصلحة العامة تجعل من المستحيل الاستماع إلى القضية بشكل عادل فلا يمكن للمحاكم في الأحوال العادية أن تنظر فيها .
لقد وضعت المحكمة العليا البريطانية سلامة الناس والمجتمع قبل أى أعتبار حتى قبل المحاكمة العادلة وأرتكنت فى ذلك الى تقييم الأجهزة الأمنية المختصة أو السلطة التنفيذية دون أن تشكك للحظة فى هذا التقييم وأعتبرته أمر مسلم به
نعود لنفس التأكيد فأصحاب الدكاكين المسماة بحقوق الأنسان لزموا الصمت تماما ولم يتهموا مثلا القضاء البريطانى بالقسوة أو عدم العدالة وأنحيازه لرؤية السلطة التنفيذية ،هذا الصمت مرجعه ليس عدم الدفع ولكن لأن من داخل لندن تدار أغلب هذه الدكاكين ولا يمكن لأصحابها التمرد على السيد البريطانى
نذهب أخير الى باريس وفى باريس كانت المواجهة مع التطرف والإرهاب المحتمل من أختصاص السلطة التشريعية أو الجمعية الوطنية الفرنسية وقرر الفرنسيون وضع قانون كامل وصارم لمواجهة التطرف فيما عرف بقانون مكافحة الانعزالية
ناقش نواب الجمعية الوطنية الفرنسية القانون فى جلسة خاصة وعامة ليحظى بموافقة 348 نائب رغم أن الموافقة تحتاج فقط الى 250 صوت
عندما ننظر الى بعض بنود القانون الذى سيحظى بالموافقة النهائية عليه من مجلس الشيوخ فى أبريل القادم نجد أن هذه البنود تهدف فى المقام الأول للحفاظ على الأمن القومى للدولة الفرنسية وسلامة المجتمع فى المقام الأول
يضع القانون رقابة مشددة على أنشطة الجمعيّات الدينيّة والثقافيّة
يعلى القانون من مفهوم الحياد الدينى لموظّفي الدولة من أجل منع تسلل أى أشخاص من المتطرفين إلى أجهزة الدولة الفرنسية
يجرم القانون النزعات الانفصالية والانعزالية
يقر القانون عقوبة بالسجن التى تقدر بثلاث سنوات وغرامة مالية تصل الى 45 ألف يورو على كل شخص يعرض حياة شخص آخر للخطر عبر نشر معلومات مضللة ومضرة له وعلى رأس هذا النشر شبكة المعلومات ووسائط السوشيال ميديا من أجل مكافحة الكراهية
يلزم القانون المؤسسات الدينية والثقافية بالحصول على تصريح إذا تلقت تمويل خارجي أكثر من 10 آلاف يورو سنويا هنا أيضا لزم أصحاب الدكاكين الصمت ولم يتهموا السلطة التشريعية الفرنسية بأنها تحد من الحريات العامة وحرية التعبير ،لكن سبب الصمت هنا مختلف فبصدور هذا القانون الفرنسى أصبح الكلام على السوشيال ميديا له حساب .وفى النهاية لا عزاء لأصحاب الدكاكين لأن العواصم الأوروبية الثلاث وضعت أمنها القومى وسلامة مواطنيها فوق أى اعتبار .