ذكرني المقال الذي كتبته الأخت الفاضلة كوثر الجوعان حول موقف الولايات المتحدة وملاحظاتها عن حقوق الإنسان في الكويت، بما رأيته في الأمم المتحدة، وما يسببه من انقسامات وتوترات بين الدول الغربية والدول الاشتراكية، ففي ذلك الوقت لم تكن هناك لجنة دائمة لحقوق الإنسان، كما هي الحالة في يومنا هذا، نتابع نشاطاتها من جنيف..
كانت حقوق الإنسان تناقش في لجنة متفرعة من اجتماعات المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، والذي كان يتكون من أكثر من خمسين دولة تجتمع لتناقش أجندة كبيرة يختلط فيها الاقتصاد بالواقع الاجتماعي، وتتفرع منه الموضوعات إلى لجان منها لجنة حقوق الإنسان.
كانت اجتماعات المجلس الاقتصادي والاجتماعي تتم في نيويورك والأخرى في جنيف، ولم يتحقق منها شيء يسجل لتلك الهيئة.
أتذكر أنني حضرت جلسة من جلسات لجنة حقوق الإنسان المتفرعة من المجلس الاقتصادي، وجدت اجتماعاتها لا تثير الوفود، يزداد فيها الغياب عن الحضور، ولا يتابعها الصحافيون المعتمدون في المنظمة، ومع تزايد الضغوط على الكتلة الاشتراكية تفتقت شهية الدول الغربية عن اقتراح لتعيين مفوض دولي يتابع حقوق الإنسان في الدول الأعضاء.
ودخل هذا الاقتراح في جدول أعمال اللجنة الثالثة المتخصصة بالقضايا الاجتماعية والانسانية، ومن هذا المقترح انفجر التوتر عندما تمت مناقشة مقترح تعيين المفوض العام، فتم تجنيد المحاربين المتحدثين لحضور المناقشة، سواء من دول الغرب لدعم المقترح، أو من الدول الاشتراكية لمعارضته، وكانت الدول العربية الثورية والراديكالية تتسلح بأمضى ما في ترسانتها لإفشال المشروع.
كنت أحد الذين يعترضون على المقترح ليس رفضاً للمبدأ، وإنما لأنه وسيلة إحراج وضغط على الاتحاد السوفيتي لاستخراج أكبر عدد من اليهود الروس الممنوعين من الهجرة إلى الغرب أو إلى اسرائيل، فضلاً عن مخاوف الدول العربية الراديكالية التي لا تتمتع فيها الأقليات بحقوق المواطنة، وكان العراق أكثرها إنكاراً لهذه الحقوق فضلاً عن واقع السودان وسوريا.
لم يتطور مقترح المفوض العام إلى أن تبدلت أوضاع روسيا بسقوط الامبراطورية السوفيتية، فتشكلت هيئة جديدة مقرها جنيف لمتابعة حقوق الإنسان ولها مفوض خاص، كان آخر من أعرفه منهم هو الشريف رعد بن زيد بن الحسين الواضح والصريح، في تبنيه للعدالة الإنسانية في المجتمعات الدولية.
هذه مقدمة عن واقع حساس تشهده الأسرة العالمية التي تتعرض لهزات مستقبلية خطرة تنبع من فوضوية سياسية واجتماعية مدمرة، وسأسجل مسببات تشاؤمي:
أولاً – إن عالم اليوم يزداد اختلاطاً وترابطاً جغرافياً وثقافة ومصيراً، بسبب تطور آليات التكنولوجيا، والمواصلات التي تجاوزت محيطات وصحارى ومسافات، واخترقت فوق ذلك المنازل والجدران، لتصل إلى جهاز الهاتف المحمول تحمل ما يدور من أحداث وما يستجد في أبعد قرى الكوكب الأرضي، محمولة بتكنولوجيا أبدع فيها الإنسان ليقدم مواد دسمة في شتى مسارات الحياة، ناقلاً ما يدور من تطورات، فيها اكتشاف وفيها إرهاب، فيها عن أحداث آسيا وبورما، وتهديدات داعش ومذابح بوكو حرام في أفريقيا، كل ذلك يتسبب في توترات تمس الجميع، يندفع فيها الكل لحماية نفسه، من مهاجرين أو من أصحاب الأقليات الدينية أو العرقية، أو من المعارضين السياسيين أصحاب الاجتهادات المخالفة، هذه المتابعات أتت من انتشار الثقافة السياسية وتتبع الأحداث وما تسببه في الكرة الأرضية، كل ذلك الفيضان من معلومات تحمل لنا وبسهولة مخترعات الإنسان الحديثة، وصرنا نعرف كل ما نريده من هذه المخترعات، ومن هنا ترابط مصير العالم وتداخلات آليات الحفاظ على أمنه الجماعي، فأزمات آسيا فيها اسقاطات سلبية علينا في الخليج وعلى الآخرين في أماكنهم.
ثانياً – مع هذه المخاوف اشتعلت شرارة الحدة الوطنية، وصارت الدول تبني الجدران والحيطان لمنع وصول الآخرين، وأصبح السياح مصدر خوف، والغريب مرفوضا، فقد تمكنت الشوفينية الوطنية من الاتساع، وصارت بعض الدول لا تعبأ بما يحدث للآخرين طالما ظلت في مأمن آمن ربما مؤقتاً، ودخلت قيادات في إعلان رفضها لمفاهيم شراكة المصير، ومعارضة مشاركتها في عمليات الإسعاف الانسانية.
سجل المفوض السابق لحقوق الإنسان سابقة في أحاديثه الصريحة عن زعماء ينتهكون حقوق الإنسان ولم يتردد في وصف رئيس الوزراء المجري «فيكتور أربان» أنه عنصري متعصب، كما أشار إلى خطورة الرئيس الأميركي السابق «ترامب» على مفاهيم حقوق الإنسان ونصح الرئيس الفلبيني بالخضوع للطب النفسي.
ومما لا شك فيه بأن العالم يميل الآن إلى إغلاق الأبواب والتمترس وراء الحدود الوطنية، ولن يستجيب مع تصاعد المخاوف إلى توسلات منظمات حقوق الإنسان.
كما تتصاعد تموجات الحدة الوطنية نحو الصعود بعد انحسار السكينة في المجتمع العالمي.
ثالثاً- من المستجدات التي برزت في الدبلوماسية الأميركية في عهد الرئيس الجديد «بايدن»، الثنائية التي تشكل محتوى الدبلوماسية الأميركية، وهي تلاقي المواقف والمصالح والشراكة في الالتزام بالقيم الإنسانية والدستورية العالية، التي تصون حقوق الإنسان وتقي حياته وتؤمن لها الحصانة من الاضطهاد الديني أو العرقي أو الفكري، وهي الدبلوماسية التي أشارت إليها الفاضلة كوثر الجوعان في رسالتها للسفيرة الأميركية في الكويت، ولا أعتقد أن إدارة الرئيس بايدن تتجاهل واقع الدول الإسلامية في التزامها بمبادئ الدين الإسلامي الحنيف واحترام رسالتها، وتطبيق قواعدها، فمن غير المعقول أن يتصور أحد بأننا في الدول الإسلامية سنتقبل زواج المثليين، فهناك محرمات وممنوعات في كل الأديان، وهناك شعائر وتقاليد وتراث لا يمكن تفكيكها، ولا أتصور أن أحداً في البيت الأبيض يتوقع منا مجاراة ما يدور في بعض الدول الأوروبية العلمانية.
رابعاً – مع كورونا وانحسار قدرة الدول المتقدمة وبعض الدول النامية عن تقديم المساعدات في مجالات التنمية للدول الفقيرة، ستبرز ضرورات تدخل الأسرة العالمية لمنع انتشار الأوبئة ومحاصرة طغيان الفقر، ومنع حدوث هجرة نحو مناطق واعدة وما تشكله من اضطراب في الأمن العالمي وفوضوية مخيفة لن تقف أمام حدود أو سدود.
والتخوف الأوروبي-الأميركي، لا ينبع من ظاهرة الهجرة الجائعة وإنما أيضاً من التطرف الديني الحاد الذي أثار الذعر في دول المشرق العربي ودول أوروبا، وتسبب في انتشار البارانويا Paranoia، ونراها الآن في اجراءات فرنسا وغيرها من تشدد في حظر الحجاب على الصغار وإبعاد الدعاة إلى بلدانهم ومنع المواطن منهم من الخطابة في المساجد.
ففي هذه الأجواء تتضاءل العدالة حول حقوق الإنسان، وتتقلص أولوياتها وتنشغل المجتمعات بما هو أخطر، ولهذا فإن الفوضوية العامة في الكوكب العالمي ستتسع وستضعف الجماليات التي نعتز بها حول وقاية حقوق الإنسان.
وأخيراً يمكن أن أشير إلى تجربتي في الأمم المتحدة عندما كنت رئيساً للجنة حظر السلاح على جنوب أفريقيا، وكان علي مراقبة من يبيع السلاح إلى جنوب أفريقيا، التي تمارس التفرقة العنصرية، كان المفروض أن تبلغني الدول المتقدمة بما تملك من تكنولوجيا وآليات التصنت والتجسس عن هوية من يصدر السلاح إلى جنوب أفريقيا.
جلست سنتين رئيساً للجنة ولم تهتم الدول بإبلاغي، لكي أقوم بفضح من يتحدى قرار مجلس الأمن بالمقاطعة، كانت حالة مزعجة، اعتمدت فيها على مصادر من الكنائس وعلى تتابع تجمعات إنسانية موجودة في المجتمعات الأوروبية، كان الاعتماد على الصحف غير مقنع لسهولة نفيه.
كانت هيئات حقوق الإنسان الموجودة داخل مبنى الأمم المتحدة مصدري، ولم تعبأ الدول بهذا المصدر المحدود الإمكانيات.. من هذه التجربة، اقتنعت بدور المنظمات ذات النفع العام بكشف الخيانات والمخالفات وممارسات الفساد، لكنها الآن تتعرض لمضايقات مالية وملاحقات أمنية وتثير المستبدين..
ستحدث انشقاقات في بعض الدول العربية وفي إيران وفي حوض الشام، واقع الدول النامية لا يتقبل ما تحلم به الدبلوماسية الأميركية في خلط المصالح مع الجماليات الإنسانية.
نقلا عن العربية