يكشف الصراع الدائر في ليبيا عن أبعاد مهمة ومتوالية، تتوضح معالمها مع كل يوم في الصراع، و من سمات هذه الأبعاد أنها اجتماعية أيديولوجية سياسية، أي أنها تشكل المنصات الكبرى لفهم حقيقة ما يجري، وهذه الأبعاد ليست مستحدثة أو مضافة إلى الجسد الاجتماعي والسياسي الليبي، و لكنها كانت في منطقة الظل وكانت محكومة بالآلية الفاشلة التي اعتمدتها أجهزة النظام في ليبيا، والقائمة على أسلوب التلقين واحتجاز مهمة التحولات بالقنوات الرسمية والحزبية للدولة، والنظرة إلى المجتمع الليبي على أنه وعاء كبير، مهمته أن يتلقف ما يصدر من الدولة، وأن يسبح بحمد الإنجازات دون أن تتاح له الفرص المعادلة لقوة التحولات الكبرى، للمشاركة في البناء و في التقويم معاً.
لقد طغى منهج فرض الكفاية على أسلوب العمل و التعامل مع الجماهير الليبية، في حين أن الحياة الوطنية تبنى أساساً بطريقة فرض العين، و القاعدة تقول في ذلك أن ملكية ليبيا لجميع أبنائها، وإن مهام بناء ليبيا لابد أن تأتي من جميع أبنائها أيضاً، وبالتالي فإن سياق السؤال المهم هو أن نقول: ما هي نسبة الطاقة المعطلة من أبناء الشعب الليبي وليس الاكتفاء بالتغني والاعتداد بالأعداد التي تمارس مهمة البناء؟ إن الطاقة التي لم تندمج في بناء ليبيا، وهي ذات مساحة واسعة، إنما تجعل الناتج العام منقوصاً بنسبة الطاقات المعطلة ذاتها، لهذا لابد من استثمار ما هو كائن ومتحقق، وبالتالي فإن المدى مفتوح على الزمن فلا يجب أن يغلق أو يسوّر البناء، وهو مفتوح على المجتمع، وعلى ليبيا بكاملها، فلا استئثار ولا احتجاز لدور الجماهير.
إنّ التعصب والانغلاق والفساد من أشد الأمراض الاجتماعية والسياسية خطورة على الدولة والمجتمع الليبي على حد سواء، إن خطورة تلك الأمراض تكمن حقيقة في أنها تصيب البنية الفوقية، وهي الأكثر أهمية في صياغة النظرية وتشكيل ما سيكون عليه مستقبل ليبيا، وعندما تزداد هذه المظاهر الثلاثة في مجتمع من المجتمعات تقوم شريحة النخبة عادة بالاضطلاع بمهمة التغيير والتنوير والانعتاق من سيطرة القيم السالفة. و يفترض أن تسهم هذه الفئة في خلق اتجاهات فكرية تسهل مهمة التنوير ومحاربة المنظومات التقليدية للتأسيس لبنية أكثر انفتاحا وعقلانية، لكن ما يحدث في ليبيا الجديدة، أن تلك الاتجاهات الجديدة التي شنت حربا لا هوادة فيها على المنظومات التقليدية، تتحول هي ذاتها إلى أداة قمعية استبدادية تفرض شكلا واحدا ووحيدا في الفكر والممارسة، فتتحول بدورها إلى عائق جديد يضاف إلى سلسلة العوائق السابقة ويعيد إنتاج الإيديولوجيات التقليدية ويكرسها وبالتالي يخلق حالة من الخيبة والإحباط.
وبهدوء نتساءل: ما الفائدة من الجهود المبذولة للتغيير في ليبيا… إن كان الجديد سيصبح تقليديا والقديم سيحضر في الجديد فارضا نفسه على مجالات المجتمع والسياسة والاقتصاد؟! ولو تناولنا حكومة الوحدة الوطنية، لوجدنا أن هناك العديد من الاتجاهات التي ظهرت معلنة ليبراليتها واستعدادها للقضاء على المنظومات التقليدية والإيديولوجيات العقيمة الفاسدة التي لم تنتج إلا التخلف والمراوحة في المكان، فضلا عن ذلك فان تلك المحاولات وقعت في مطب ثنائي البعد، البعد الأول يتجسد بأنها عجزت أولا عن تقديم بديل قادر على سد الفراغ الفكري والسياسي، فلابد أن يعقب الهدم بناء ولابد أن يتلو السالب إيجاب وإلا أصبح الخواء هو القانون المسيطر أو تم ملء الفراغ بما هو أخطر في تكوينه وأهدافه على المجتمع من البنى التقليدية ذاتها، وأما البعد الثاني فهو إعادة إنتاج الأحادية والتعصب عن طريق تكريس الثقافة الالغائية، فإسقاط الآراء المختلفة فقط لأنها مختلفة ليس فعلا تنويريا وإن كان صاحب هذا الاتجاه يرفع شعار الليبرالية، وبهذا يكون الموضوع الجديد فقد محتواه التنويري التغييري لافتقاده المنهج المناسب، وبهذا يكون الليبرالي الذي يريد فرض ليبراليته بالقوة رافضا كل الاتجاهات الأخرى لا يختلف كثيرا عن الفكر الأخواني الذي يسيطر على تفكيره أحادية يرى فيها الحقيقة حقيقته هو رافضا كل الاحتمالات والممكنات الأخرى. الاثنان متساويان من حيث أن المنهجية واحدة وهي التكفيرية.
أعود وأؤكد أهمية الفراغ الفكري في المجتمع والدولة وما له من خطورة وما ينطوي عليه من نتائج قد تكون كارثية، فالفراغ كلمة مجازية إذ أنه عمليا غير موجود، فالهواء يبدو لنا أنه فراغا لكنه مليء بالغازات المتنوعة التي لا نراها ومنها قد تكون الغازات السامة، والبنية الذهنية كذلك، الأمر لا يمكن أن تسكنها الخواء وإنما يملؤها إيديولوجيات مختلفة، قد تتراوح من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولذلك يبدو لزاما على الطبقة الليبية، التي تعتبر نفسها نخبة، على عاتقها دور التنوير أن لا تترك المكان للايديولوجات السامة وتسارع فتملأ البناء الفوقي بما يتناسب و عملية إعادة البناء التي غدت ضرورة واجبة. وتبقى التعددية الفكرية هي المؤشر الأول على سلامة ليبيا والمجتمع، فسيطرة اللون الواحد دليل الفشل المحقق أو الوشيك، وتثبت التجارب التاريخية المتعاقبة للمجتمعات البشرية بدءا من الأسرة وحتى المجتمع المدني أن التعددية مطلوبة لإنجاح العملية الاجتماعية والسياسية، وكذلك الاقتصادية وأن الفشل الذريع هو النتيجة المحتمة لإعادة التعصب بمختلف ألوانه وأنماطه.
خلاصة الكلام: إنّ الحل الوطني الذي يجب أن تملكه حكومة الوحدة الوطنية، بكامل إرادة السيادة، والقرار المستقل يحتاج اليوم إلى أن تحدد ـ من خلاله ـ بنك الأهداف الوطنية الليبية، وتعلن محتوياته على صعيد السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والثقافة، والحقوق، والواجبات، والمشاركة الوطنية، والوطن الواحد للجميع، والإيمان بالذات وبالآخر بقدسية واحدة، وإعادة صياغة العقل الليبي… فالبنك المأمول للأهداف الوطنية الليبية، هو من نتائج خوض الشعب الليبي للمعركة ضد تدمير وتقسيم ليبيا ومن وراءها، ولذلك هو صاحب الخطوة المهمة في تحديد مكونات هذا البنك، وتعيين قضاياه، ومعه تنجز حكومة الوحدة الوطنية هذا الشأن التاريخي.