فعل المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية خيرا بتنظيمه لمؤتمر حول حقوق الإنسان فى بداية الأسبوع الثانى من شهر إبريل الحالى. حتى وإن كان تنظيم المؤتمر بمناسبة التصدى للوباء العالمى، فإن توصياته أشارت ضمن ما أشارت إليه إلى اليوم العالمى لحقوق الإنسان، ودعت على المستوى الداخلى إلى إعادة النظر فى بعض الممارسات ودعت إلى تعديلات فى القوانين والسياسات. هذا خير لا مراء فيه. هو خير لأن حقوق الإنسان فى وسائط الاتصال المصرية وفى الخطاب السائد فيها كانت قد تبدت فى السنوات الأخيرة مصطلحا مستهجنا. بدا أن ثمة عزما على أن ينمو إلى الرأى العام أن حقوق الإنسان هى مفهومٌ مأفون يُبتغى من ورائه تفكيك المجتمعات و«هدم الدول». بمعنى آخر، قُدِمت حقوق الإنسان على أنها ضد مصلحة الإنسان. وبالطبع كان اللجوء السهل إلى أن حقوق الإنسان مفهوم ومشروع غربى، وهى حجة سهلة فى مجتمع وضعه التاريخ الحديث والمعاصر فى مواجهة الاستعمار «الغربى» الاستغلالى، ومن قبل ذلك كان طرفا فى مواجهة بين حضارتين كانتا متكافئتين ثم أنتجت واحدة منهما «الغرب» المنتصر والمتعالى، والأخرى «الشرق» المتراجع.
***
ما المراد من القول بأن حقوق الإنسان مفهوم «غربى»؟ هل معنى ذلك أن حقوق الإنسان فى السويد تختلف عنها فى بوليفيا أو فى كينيا أو فى ليبيا أو فى لاوس؟ هل يصبح الحق فى الحياة أو الحق فى ألا يتعرض الإنسان للتعذيب أو للمعاملة المهينة مقبولين ولا غبار عليهما فى كندا وفنلندا، ولكنهما مذمومان وخدعة للإنسان فى باكستان وسوريا؟ هل حق الإنسان فى محاكمة عادلة يصبح مفهوما تدور حوله الشكوك فى أى مجتمع غير «غربى»؟
رفض المفاهيم الكامنة فى حقوق الإنسان لمجرد أنها آتية من الغرب شىء غريب لأن نفس من يدعون علنا أو ضمنيا إليه لا يطبقونه بل ولا يتصورون تطبيقه على كل ما يصدر عن «الغرب». وهذا لا ينطبق على الإنتاج المادى وحده بل هو ينسحب على نفس الأفكار المجردة الآتية من الغرب. هل يرفض هؤلاء تنظيم الحكومات ودواوينها على نمط تنظيم «الغربيين» لها؟ هل يتصورون أن نغلق سفاراتنا المقيمة فى الدول الأجنبية لأن هذا النمط من التمثيل الدبلوماسى مما أدخله «الغرب» على العلاقات بين الدول؟ هل يدور بخلدهم أن تكف الجيوش فى بلداننا عن تقسيم نفسها إلى فرق وألوية وكتائب وسرايا لأن هذا هو التقسيم الذى تأخذ به الجيوش الغربية؟ هل يرفضون الأخذ بقسم أبيقراط ويشجعون الأطباء على نشر أخبار مرضاهم وأسرارهم يمينا ويسارا حتى يتميزوا عن «الغرب» ويُشاد بأصالتهم؟ «الغرب» من جانبه لم يرفض المفاهيم الواردة إليه من عندنا بل أخذ بها وأنتج علما وتقدما استخدمهما بعد ذلك فى استعمارنا ومحاولات إخضاعنا. هل رفض «الغرب» الذى كان يستخدم الأرقام الرومانية، هل رفض الأخذ بالأرقام العربية وبالصفر لمجرد أن من جاء بها هم العرب؟
***
الغرب منح مفهوما ومصطلحا جامعين لمفاهيم كانت موجودة من قبل ولكن منفصلة عن بعضها البعض فى الديانات والثقافات المختلفة بما فيها دياناتنا وثقافتنا الشرقية. أليس الحق فى الحياة مكافئا لتحريم قتل النفس فى كل الأديان؟ أليس الحق فى محاكمة عادلة تعبيرا عن التوافق فى الثقافات والأديان على قيمة العدالة والحكم بالعدل بين الناس؟ وأليس حق الناس فى الصحة متمثلا فى معجزة إبراء المريض، وأليست حقوق المحرومين فى حياة كريمة هى الهدف مما يخرجه المقتدرون من أموالهم؟
يصل بنا هذا إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإنسان. واقع الأمر أن هذه الحقوق هى الأصل وهى التى انصب اهتمام الأديان والثقافات عليها، وهو ما أشير إليه فى الفقرة السابقة. التفكر فى حياة الناس وتنظيمها، الهدف منهما الارتقاء بحياتهم وتلبية احتياجاتهم المادية والمعنوية والروحية ليعيشوا عيشة كريمة. الحقوق فى التعليم وفى الصحة وفى السكن وفى الضمان الاجتماعى هى التفصيل للاحتياجات المادية للإنسان. أما الحقوق المدنية والسياسية للإنسان فهى وإن كانت مطلوبة فى حد ذاتها فإن وظيفتها الأساسية هى أن تكفل للناس أن يطالبوا بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وأن يدافعوا عنها. عند التفاوض قرب منتصف خمسينيات القرن الماضى بشأن ترجمة جميع حقوق الإنسان الواردة فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان إلى التزامات على الدول الوفاء بها تجاه الناس، طالب الاتحاد السوفيتى بأن ترد كل الحقوق فى اتفاقية دولية واحدة ملزمة. شدد الاتحاد السوفيتى على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لأن نظامه السياسى منحها الأولوية وتقدم فى الوفاء بها. فى المقابل، رفضت الولايات المتحدة، رافعة راية الرأسمالية ومعها دول غربية ذلك، واعتبرت الولايات المتحدة أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مجرد تطلعات وليست حقوقا وكان لها ما أرادت فى ظل توزيع القوى فى الأمم المتحدة آنذاك حيث كانت دول المعسكر الاشتراكى قليلة العدد. هكذا جرى التفاوض على نصين منفصلين، واعتمد العهدان الدوليان لحقوق الإنسان المدنية والسياسية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية فى سنة 1966 ودخلا حيز النفاذ فى سنة 1976. ولكن ما الذى حدث على أرض الواقع؟ سقطت الأنظمة الاشتراكية فى الاتحاد السوفيتى ووسط وشرق أوروبا لدى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضى لأنها داست على الحقوق المدنية والسياسية فلم تستطع المجتمعات فى هذه الدول أن تشترك فى الحفاظ على الأنظمة السياسية وفى الدفاع عن الاستحقاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى تمتعت بها. انظر إلى روسيا وإلى توقع العمر عند الولادة فيها. تراجع معدل النمو فى التوقع ليس فقط بعد انهيار الاتحاد السوفييتى وسقوط الاشتراكية فيه بل فى ظل الاتحاد السوفييتى نفسه. بلغ أعلى معدل سنوى فى نمو العمر المتوقع عند الولادة 2,29 فى المائة فى 1951 وهو معدل معتبر ثم أخذ المعدل فى التراجع وإن بقى موجبا حتى سنة 1968 عندما بلغ هذا العمر 68,47 سنة. بعد ذلك ولفترة 15 عاما كان معدل النمو فى توقع العمر عند الولادة سالبا حتى أن هذا العمر أصبح 67,47 سنة فى عام 1983، أى سنة أقل مما كان عليه قبل 15 عاما. وبلغت معدلات النمو السالبة أشدها فى السنوات الثلاث الأخيرة للاتحاد السوفييتى فهى سجلت ناقص 0,74 فى المائة فى كل من سنتى 1989 و1990 وناقص 0,75 فى المائة فى سنة 1991 عندما صار العمر المتوقع عند الولادة 67,60 سنة أى أقل مما كان عليه ربع قرن قبلها. العيب لم يكن فى توفير استحقاقات الناس وتلبية احتياجاتهم، فلقد كان للاتحاد السوفييتى أن يفخر بأن الاشتراكية مكنته من ذلك. العيب كان فى أن النظام السوفييتى حرم نفسه من مشاركة مواطنيه فى رسم السياسات الضرورية للحفاظ على مكتسباتهم، ناهيك عن أن النظام عجز عن إعادة إنتاج نفسه فتهاوى. الترابط بين الحقوق المدنية والسياسية، من جانب، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جانب آخر لا مراء فيه. لا يمكن تقديم مجموعة فيها على الأخرى وإلا تعرضت كلها للانهيار.
***
مربط الفرس هو فى المشاركة فى رسم السياسات وفى صنع القرار. هنا تتجلى الأهمية الحيوية لكل من الحق فى حرية التعبير والحق فى المشاركة فى إدارة الشئون العامة، وهما حقان مرتبطان ببعضهما البعض. الحق فى حرية التعبير يندرج تحت الحق فى اعتناق الآراء من جانب وهو يشمل الحق فى الحصول على المعلومات من جانب آخر حتى تكون الآراء التى يعبر عنها الفرد أقرب ما تكون إلى السلامة. هذه الآراء المستندة إلى المعلومات حيوية، يعبر عنها المواطنون ويشاركون عن معرفة بها فى إدارة الشئون العامة فتتسع بهم دائرة عملية اتخاذ القرار. ضيق عملية اتخاذ القرار يسرع من اتخاذه ولكنه يحرم المتخذ النهائى للقرار من آراء ومعلومات تهذب القرار وقد تصحح أى سوء تقدير قد يقع فيه، وهو مما يتعرض له متخذ القرار النهائى فى المؤسسات الخاصة والأنظمة السياسية، كبيرها وصغيرها فى كل مكان من العالم. يرتبط بهذين الحقين حقوق أخرى مثل الحق فى تكوين الجمعيات والحق فى التجمع السلمى ولكن لاعتبارات المساحة المخصصة للمقال نكتفى بالحقين المذكورين أولا.
الحق فى حرية التعبير عن الرأى والحق فى المشاركة فى إدارة الشئون العامة بالمساهمة فى عملية اتخاذ القرار ليسا امتيازا وإنما هما واجب على المواطنين/ات ومن حقوق الجماعة الوطنية عليهم.
رد الاعتبار لمفهوم حقوق الإنسان يكرس للإنسان وللجماعة الوطنية حقوقهما وهى نفس الحقوق.
ابراهيم عوض
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
نقلا عن الشروق