خرج المسؤول إلى الناس ينبئهم أن وباء قادماً يوشك أن يفتك بهم، وعليهم أن يتأهبوا نفسياً لفقد أحبائهم من أقارب وأصدقاء، وأن الموت الكمي هو الوسيلة الفضلى لكبح الوباء وإرهاقه، أي ترك القدر يختار من يعيش ومن يموت. هل في هذا التصريح ما يزعج؟
هل من حق من يمتلك السلطة أن يحدد مصائر الناس ومن له أولوية الحياة؟
هذه السياسة في التعامل مع المخاطر تدلل على أن النظام منح السلطة وحدة القرار، ومكّنها من أن تفكر وتدبر وتقرر في شأن حساس للغاية، وهو حق الإنسان في الحياة. لهذا، فإن سبر أغوار ملف حقوق الإنسان الذي يعتبر من أهم الملفات وأكثرها حساسية، يفترض أن يكون بتجرد، وبعيداً عن التناول المسيّس والمؤدلج. حق الحياة يتقدم على كل الحقوق، لأن الميت لا حق له سوى دفنه، لكن الأحياء لهم قائمة طويلة من الحقوق المعنوية والمادية، تضيق أو تتسع لكنها حقوق مشروعة ما دام الإنسان على قيد الحياة. مثلاً، الرئيس الأميركي جو بايدن أدان الإبادة العثمانية للشعب الأرمني التي حصلت قبل أكثر من قرن، وعزا هذا التأخر بأن حقوق الإنسان لا تذهب بالتقادم وأن هذه الإدانة ضمانة لعدم تكرار مثل هذه المآسي. لا أشك أن السبب وراء الموقف الأميركي سياسي، ضمن حسابات الولايات المتحدة مع تركيا، لكن من الصعب تجاهل الموقف الأخلاقي من القضية، والأكيد أن الحقوق بالفعل لا تتلاشى بمرور الزمن. إدانة بايدن لما حصل للأرمن كان بجهود إحياء الأرمن للذكرى كل عام، ووجودهم في أروقة نظم الحكم الأوروبية والأميركية… كان لهم صوت، وهذا الصوت وصل إلى أقصى ارتفاعه بهذه الإدانة التي ستصبح وشماً للحادثة يُعاد الحديث عنها كل عام. ليس من حق العثمانيين ارتكاب فظائع وسلب حياة آلاف من المدنيين تحت أي ذريعة، لذلك ليس لتركيا الحديثة أن تدافع عن الجريمة. أيضاً ليس من حق رئيس حكومة أي دولة أن يقول للناس وقت حصول وباء تأهبوا للموت، بسبب أن النظام الصحي لا يستطيع أن يحتمل حالة الطوارئ. ليس من حقه، لأن توفير مؤسسات صحية كافية هو جزء من مهامه، وكونه فشل في ذلك فإن هذا لا يعني أن يتجرأ على ترويعهم بالموت.
أقرأ قبل قليل، حادثة في منطقة عسير لفتاة سعودية في العشرين من عمرها حاولت الانتحار لولا لطف الله. تم إنقاذ الفتاة وباشرت النيابة سؤالها عن الأسباب التي دفعتها لذلك، فذكرت أن أشقاءها الثلاثة أجبروها على توقيع ورقة متعلقة بحقوقها المالية من الإرث. النيابة استدعت الأشقاء، لكن واحداً منهم لاذ بالفرار وتم التعميم للقبض عليه. منذ زمن، كان حق المرأة في الميراث يتوقف على خشية أقربائها الورثة من الله، وهذا يعتمد، متأرجحاً، لكن لم يكن ينظر إليها صاحبة حق. مرّ ذاك الزمن، وتحولت أمور كثيرة، لدرجة أن من يحاول الانتحار لا ينتهي دور الدولة بالتحقيق لاستبعاد الشبهة الجنائية، إنما فهم الدوافع وتوفير الرعاية النفسية اللازمة حتى نهاية الأزمة. في يوم من الأيام، سُجنت امرأة مع أطفالها لأنها تزوجت وأنجبت من رجل لا يكافئها في النسب. اليوم يقرر القضاء السعودي إلغاء هذا الاشتراط ويصبح أمراً سارياً في كل المحاكم.
القصص والحوادث لا تنتهي، تستهدف المرأة والطفل بصورة أكبر، لذلك سُنّت تشريعات لحمايتهما من الأذى والعنف والظلم، انتصاراً لإنسانيتها، وكلما كانت هذه التشريعات أقوى وأشمل في تطبيقها كان المجتمع أكثر أمناً وتحضراً. من المسؤول عن وضع هذه التنظيمات، والأهم من يراقب تنفيذها؟ بالتأكيد عين الدولة، هي من تراقب، وأجهزتها تنفذ. لكن للأسف لم تجد هذه التشريعات صدى كافياً كما وجدت حادثة السجن… لا تجد الحقائق فرصتها في النشر والإعلام كما تجد الشائعات، لذلك تغاضى المهتمون بالملف الحقوقي الدولي عن التشريعات الجديدة، لكنهم يولون اهتماماً بالمرأة حينما تتورط في قضية أمن دولة، ويتعاطفون معها لتسييس حقوقها واستخدامها في حسابات الربح والخسارة.
حق الإنسان في المقام الأول هو الحياة، لذلك تمنع بعض الدول الإجهاض، لأن النظام أوكل نفسه حامياً للروح الناشئة، ومسؤولاً عنها حتى قبل أن تخرج إلى النور. هذا النظام هو من سيستمر في حمايتها في النور وحين تكبر وحين تشب، وتشيب، حماية من الأذى والتعدي، رجلاً كان أو امرأة، ويزداد الأمر حساسية في حماية المرأة من الاعتداء والتجبر، في ظل مجتمعات عانت فيها المرأة إلى وقت قريب من تحجيم قيمتها الإنسانية.
أن يحظى الإنسان بفرصته ونصيبه من الحياة فهذا الحق الأولي، أن يكون آمناً على نفسه وعرضه وماله، فهذا حق لا جدال فيه، وأن يكون له نصيب من التنقل والتعليم والعمل والحماية من الأمراض فهذه أساسيات، لا جدوى للحديث عن غيرها إن لم تتوفر، لأن عدم وجود أي منها هو انتقاص خطير، وعدم تقدير قيمة هذه الحقوق انتهاك صريح لها.
أمل عبد العزيز الهزاني
كاتبة سعودية
نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط السعودية