العميد م. ناجي ملاعب
باحث في القضايا الأمنية والإستراتيجية
عضو الهيئة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية
في زمن تواجه فيه القوى الأمنية حراكاً اعتراضياً قوياً، بدأ في 17 تشرين الأول 2019 وخفتت قوته مع ظهور جائحة كورونا، لكنه عرضة للتفاقم تزامناً مع الأزمات السياسية والإقتصادية الكبرى التي لم يجد المسؤولون لغاية تاريخه أية حلول ناجعة له. حراك لم تواجه السلطة مثيلا له منذ زمن، ورغم شعاراته السلمية، فقد شابه بعض التعديات على الأماكن العامة والخاصة حاولت – تعبيرا عن فورة شعوبية أو استغلالاً من جهات مأجورة – حرفه عن شعاراته المحقة.
أن توضع القوى الأمنية في تماس مباشر مقابل المحتجين والناقمين على الحالة المعيشية المتسارعة في الإنهيار، ولمدة فاقت العام والنصف ومفتوحة على احتملات مجهولة، في ظل تهاون أصحاب المسؤولية في اعتماد الحل المناسب، لا طاقة لدى تلك القوى على تحمّله، وهذا ما حدى بقائد الجيش أن يطلق صرخته العلنية في اجتماع عسكري عال المستوى موجهاً سؤاله ” يا حضرات المسؤولين وين رايحين” رافضا وضع الجيش في مواجهة مع المحتجين، مع تركيزه المباشر على أن “الجيش مع حرية التعبير الذي يكفلها الدستور اللبناني والمواثيق الدولية”[1]
لم تكن صرخة قائد الجيش في الفراغ، فللجيش مهام أساسية ضد العدو الإسرائيلي ومكافحة الإرهاب على الحدود، ولكن تدخله “لصون وحماية السلم الأهلي” بمؤازرة قوى الأمن الداخلي عمّق ثقة المسؤولين وعامة الشعب بدورهما، في زمن “الربيع العربي” الذي اجتاح معظم بلداننا العربية والذي رافقته مآسي وتداعيات نجونا منها – حتى اليوم – نتيجة حسن التصرف الأمني والحضور الدائم لإستيعاب الفورة الشعبية المتصاعدة وفي معظم المدن والطرقات الرئيسية. إنه امتحان صعب لقوى الأمن الداخلي المعنية مباشرة بأمن المجتمع وبمؤازرة الجيش فهل كانت قيادة تلك القوى على قدر المسؤولية؟
في بحثي هذا سوف أتطرق بشكل موجز الى مفاهيم حقوق الإنسان وفق “الشرعة العالمية” والى المبادئ الأساسية في المسؤولية الشرطية، وأتوسع في مسار تطور مسألة حقوق الإنسان في لبنان في قطاعي الأمن والدفاع، متوقفا عند انشاء قسم حقوق الإنسان في المفتشية العامة لقوى الأمن الداخلي في العام 2008، والذي أعقبه إعلان “مدونة قواعد سلوك عناصر قوى الأمن الداخلي” في 2011. وإنشاء قيادة الجيش “مديرية القانون الدولي وحقوق الإنسان”، تبع ذلك في العام 2019 إطلاق “مدوّنة قواعد سلوك عناصر الجيش في إنفاذ القانون”، وصولاً الى “جردة المحاسبة” التي خضعت لها القوى الأمنية اللبنانية في جنيف في سياق الاستعراض الدوري الشامل لسجل حقوق الانسان، بداية هذا العام لمناقشة وضع حقوق الإنسان في لبنان بمشاركة العديد من الدول في حوار تفاعلي مع الدولة اللبنانية.
أولاً: آلية إقرار الشرعة العالمية لحقوق الإنسان
كان العالم، في نهاية الحرب العالمية الثانية، بيتًا منقسمًا على ذاته، إن بسبب الإديولوجيات السياسية والإقتصادية المتصارعة، أو بسبب مئات الآلاف من الحواجز الدينية، الطبقية، الثقافية والعنصرية، أو بسبب ديكتاتوريين كانوا يستحلون لأنفسهم حق إستباحة كرامات ملايين الناس في أوطانهم.
آنذاك ، كان جوزف ستالين قد انتهى من ” تطهير” دولته السوفياتية من المشاكسين المنشقين. وكان فرنسيسكو فرنكو يوطد ديكتاتوريته في إسبانيا. وكان أنستازيو سوموزا يغتصب مقاليد الحكم في نيكاراغوا، وكادت العنصرية بين البيض والسود تفتك بالولايات المتحدة.
في ذاك الوقت، بدأت العصبة الدولية الجديدة النظر في إنشاء وتكوين هيئة دولية لحماية حقوق الإنسان فكانت مفوضية حقوق الإنسان. وضمت التشكيلة الأولى من اعضاء المفوضية، عام 1946 : الدبلوماسي اللبناني شارل مالك، الدكتور في الفلسفة من جامعة هارفارد، والذي أصبح مندوب لبنان الدائم في الأمم المتحدة، بالإضافة إلى مندوبين من ثماني دول تمثل حضارات مختلفة. ثمّ إنتُخب مالك مقررا للجنة التي أنجزت في العام 1947 “مسودة جنيف”. وكان للدكتور مالك دور فذٌ وحاسم في الصياغة أولاً، ثم في إقرار الشرعة العالمية في العاشر من كانون الاول 1948.
بعد الإنتهاء من إنجاز الشرعة الدّولية أو “الإعلان العميم” تابعت مفوضية حقوق الإنسان العمل على الشق الثاني من ” البيان الدولي بالحقوق”، أي صياغة ” الميثاق الدولي لحقوق الإنسان”. وقامت الجمعية العامة، بتجزئة هذا الميثاق الدولي إلى وثيقتين منفصلتين؛ دعيت أولاهما “الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية”، والثانية “الميثاق الدولي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية”. هذان الميثقان سيكونان مُلزمين للدول الاطراف فيهما وسيتضمنان أيضاً تدابير تنفيذ.
لقد عُدّ دخول الميثاقين حيز التطبيق، في العام 1976، بداية عهد جديد في تاريخ حقوق الإنسان. فلأول مرة، تلتزم الدول الاطراف في الميثاقين تجاه الأسرة الدولية تعزيز حقوق مواطنيها الأفراد. ولأول مرة، تقوم هذه الدول بمنح هيئة رقابة دولية هي “لجنة حقوق الإنسان” (Human Rights Committee) سلطة دراسة مدى تقيد الدول بهذه الحقوق. ولأول مرة أيضاً، بناءً على البروتوكول الاختياري (الأول) الملحق بالميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي دخل حيز التطبيق أسوة بالميثاق عام 1976، يتاح للمواطنين الافراد الذين وقعوا ضحايا انتهاك لأي حق من حقوقهم الواردة في الميثاق على يد دولتهم أن يتقدموا، ضمن شروط معينة، بشكوى ضدها إلى لجنة حقوق الإنسان؛ أي إلى سلطة لا تخضع لولاية السلطات الوطنية التي قامت بالانتهاك. وقد أقرّ، لاحقاً، بروتوكول اختياري ثاني ملحق بالميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية ينص على إلغاء عقوبة الإعدام. وقد دخل البروتوكول الاختياري الثاني حيز التطبيق في العام1991.
بعد إقرار الميثاقين الدوليين، نشطت منظمة الأمم المتحدة في إرساء مُثُل تحقيق أخرى في مجال حقوق الإنسان.
أ – أهم الإعلانات عن المثل العالمية في مجال حقوق الإنسان
– إعلان القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على اساس الدين أو المعتقد (1981/11/25)
– إعلان الحماية لجميع الأشخاص من الختفاء القسري 1992/12/18)) وقع عليها لبنان في فبراير 2007
– إعلان حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية، دينية ولغوية (1992/12/18)
وسنكتفي في ما يلي بإيراد الاتفاقيات التي تتمتع كل منها بهيئة رقابة دولية تشرف على حسن تطبيق الإتفاقية:
– الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري صادق عليها في 12 نوفمبر 1971
– اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ النساء (1981/10/3) وصادق عليها في 16 بريل 1997
– اتفاقية مناهضة التعذيب وسائر المعاملات أو العقوبات الوحشية اللاإنسانية أو المُحطة (1987/6/26) وصادق عليه البرلمان اللبناني في 22 ديسمبر 2008
– اتفاقية حقوق الطفل (/9/2 1990) والبروتوكول الإختياري لإتفاقية حقوق الطفل بشأن إشراك الأطفال في النزاعات المسلحة صدقت في 11 فبراير 2002
ب – الوظائف “السلبية” للشرطة ومفاهيم حقوق الإنسان
يشيع الميل إلى الربط في الأذهان ما بين العمل الشرطي والوظائف السلبية للدولة، إذ تستطيع الشرطة استخدام سلطاتها بصورة مشروعة لتقييد حقوق الناس وحرياتهم. وإلى حد بعيد، لا يمكن تقييم مدى مشروعية استعمال الشرطة لسلطاتها إلا بعد استعمالها، ما دامت الشرطة لديها، وتتطلب درجة ما من السلطة التقديرية التي تحدد لها أسلوب ما تفعله أو تحجم عن فعله. والواضح أن ذلك يتطلب نظاما ً ناجحا من المساءلة. والواقع أن قضايا المساءلة تمثل أحد بواعث القلق الرئيسية لدعاة حقوق الإنسان، وكثيرا ما يشار إلى زيادة المساءلة باعتبارها حلاً مهما لمشكلات حقوق الإنسان[2].
ومع ذلك، فإن اهتمام حركة حقوق الإنسان قد تحول تدريجيا فأصبح يتضمن الالتزامات الإيجابية للدولة، ومنها إلى الشرطة في أدوارها الأخرى: أي باعتبارها حامية لحقوق الإنسان، ومن القوى الرئيسية في الحفاظ على الاستقرار الشامل (وهو ما تسميه الشرطة “النظام”)، وداعمة لإيجاد الأوضاع التي يتمتع الناس فيها بحقوقهم جميعا )بما في ذلك الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية).
والواقع أن الشرطة تتعرض منذ وقت طويل لتسليط الضوء عليها من زاوية حقوق الإنسان، وبأسلوب يقتصر على بعد واحد، لكنه سلبي. وأما في الآونة الأخيرة فقد أضيفت أبعادٌ أخرى، من بينها ما يعترف بالدور الإيجابي للشرطة، وما يتيح إمكانية تأمل مجالات المصالح المتبادلة لدعاة حقوق الإنسان ومسؤولي الشرطة معا.
وعلى امتداد عقود طويلة، ظل تناول حقوق الإنسان مقصوراً على منظور الدولة القوية التي ترتكب الانتهاكات ضد الفرد الضعيف، بمعنى أن الجمهور يحتاج إلى الحماية من الدولة التي تنتهك حقوقه فعليا. وكان مما يتفق مع هذا المنظور موقف أساسي يرى أن حقوق الإنسان تقتصر على الحياة العامة، ولكن التركيز قد تحول في السنوات الأخيرة لإبراز حقيقة مفادها أن حقوق الإنسان لا تقتصر على ما يفعله أو يمتنع عن فعله مسؤولو الدولة ضد الجمهور، ولكنها تتضمن أيضا الأفعال التي تقع بين أفراد الجمهور (أفعال أطراف لا تنتمي للدولة ضد أفراد الجمهور، وكذلك أفعال أفراد الجمهور ضد بعضهم البعض) ولإبراز دور الدولة في حماية الأفراد في حياتهم الخاصة[3].
أن انتهاج منظمات حقوق الإنسان لنهج يقر بمخاوف الشرطة وواقعها ويتفهم لغة الشرطة سوف يكون أكثر فاعلية من نهج يعزل نفسه جانباً ويكتفي بالانتقاد من موقعه الخارجي. والمؤكد أن مثل هذا النهج يتطلب أن يكون جهاز الشرطة إيجابيا في تعامله مع بواعث القلق بشأن حقوق الإنسان ومع الإصلاحات القائمة على أساس مبادئ حقوق الإنسان إذا لزم الأمر.
تتمثل المسؤولية الشرطية في حفظ الأمن والنظام العام ومنع الجريمة والتحري عنها ومساعدة من هم بحاجة إلى المساعدة. وقد أسندت إلى الشرطة سلطة وصلاحية القبض على الأشخاص واحتجازهم والتفتيش والمصادرة واستخدام السلحة النارية وغيرها من أشكال القوىأسلحة النارية وغيرها من أشكال القوة. لذلك ينبغي أن يكون لدى عناصرها الهاجس الدائم الاستجابة لطلبات المجتمع، بمنتهى المسؤولية، والإلمام بالقانون واحترامه وتطبيقه من دون تمييز في حصول المواطن على الحماية، وعدم التذرع بأية ظروف استثنائية أو بالأوامر الصادرة عن الرؤساء لتبرير أي سلوك غير قانوني. وقد وضعت لهذه الغاية “مدونة سلوك” لتوفير مبادىء توجيهية، أخلاقية، وقانونية للمهنة ملخصها:
ينبغي أن يكون هاجسهم الدائم الاستجابة لطلبات مجتمعاتكم، وإوتأدية المهام في جميع الأوقات بما يقتضيه القانون
إحترام كرامة الإنسان وحمايتها والحفاظ على حقوق الإنسان لكل الأشخاص
عدم إستعمال القوة إلا في حال الضرورة القصوى وفي الحدود التي توجبها المهمة
المحافظة على سرية الأمور ذات طبيعة “سرية” ما لم تقتضِ لذلك متطلبات العدالة
حظر القيام بالتعذيب أو غيره من ضروب المعاملة او العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة
حماية صحة الأشخاص المحتجزين في عهدة رجال لشرطة وتوفير العناية الطبية لهم
البعد عن ارتكاب اي فعل من افعال افساد الذمة (الفساد)
احترام القانون وهذه المدونة وابلاغ السلطات العليا بأي انتهاك لحقوق الإنسان في المفهوم المهني لقوى الشرطة والأمن
من هنا يتوجب على القادة الحرص الدائم على تضمين التعليمات والمذكرات الداخلية والأوامر الى المرؤوسين بما يتناسب والمبادىء العامة لحقوق الانسان.
ج – المبادئ الأساسية في المسؤولية الشرطية
1- يتحمل كبار الموظفين مسؤولية ما يرتكبه موظفو الشرطة، الذين يأتمرون بأمرهم، من أفعال في حالة ما إذا كان كبار الموظفين على علم أو كان ينبغي أن يكونوا على علم بتجاوزات الشرطة، بيد أنهم لم يتخذوا بشأنها تدابير ملموسة.
2- الإحتفاظ بسجلات واضحة وكاملة ودقيقة،عن شؤون التحقيقات، والإعتقالات، والإحتجاز، واستخدام القوة، والأسلحة النارية، ومساعدة الضحايا، وجميع القضايا الأخرى المتعلقة بأنشطة الشرطة.
3- توفير التدريب لجميع الموظفين عند بدء خدمتهم، وبصفة مستمرة أثناء الخدمة، مشددين في ذلك على جوانب حقوق الإنسان المتعلقة بأعمال الشرطة. مع الحرص الكامل على أداء ما يفرضه القانون في سبيل خدمة المجتمع وحمايته من الأفعال غير المشروعة، بما يتفق ودرجة المسؤولية التي تقتضيها مهنتهم.
4- اعتماد سياسات تجنيد وتوظيف وتكليف وترقية، في جميع أجهزة الشرطة، خالية من أي شكل من اشكال التمييز غير المشروع، مع الحرص الدائم أن تمثل عناصر الشرطة مكونات المجتمع بكامله. لذلك من البديهي تنظيم آلية يسهل الوصول إليها لتلقي الشكاوى، والتحقيق بعناية في سبيل وصول الشاكي الى مراده واعادة الحق إلى أصحابه.
5- القيام بالتفتيشات الدورية والعشوائية،غير المعلن عنها، لمرافق الإحتجاز ومراكز الشرطة والمراكز الفرعية. مع التركيز على الأسلحة والذخائر التي يحملها العناصر للتأكد من أنها تتفق مع اللوائح الرسمية.
6- إقامة علاقات تعاونية وثيقة مع الأجهزة الأخرى المكلفة إنفاذ القانون، والقضاة، والمدعين العامين، والمرافق الطبية، وأجهزة الخدمات الإجتماعية وممثلي وسائل الإعلام، والمنظمات الإجتماعية.
يتبع…