كانت العرب قديما تختزل الحكمة في أقوال بليغة تذهب أمثالا مع الأيام، ومن ذلك قولهم: سوء الظن من حسن الفطن.
راقبنا وغيرنا كثير، بفرح ممزوج بالتوجس وحذر الملسوع أكثر من مرة، توقيع اتفاقية العلا مطلع العام الجاري، وكما قالت العرب أيضا: من مأمنه يؤتى الحذِر.
لم تكن السياسة القطرية تسير على سجاد حسن النيات؛ فالضرب تحت الحزام لعبة يتقنها من مارسوا العمل السري طيلة حيواتهم، وهنا يبرز التيار الإخواني بجدارة في كل فتنة “مجهولة النسب”.
القصة ببساطة:
اشتعلت مؤخرا شرارة فتنة في العلاقات بين دولتيّ الإمارات والكويت. هذه المرة لم يجد مشعلو الفتنة في “لجان الدوحة وحاناتها الإلكترونية” نوافذ عالية للتسلل منها وكسرها، بل وظفوا المخيلة المريضة بتلفيق، كادوا يتقنوه، لولا بعض أخطاء كشفت زيف الحكاية من أولها.
كانت البداية بعنوان “مؤامرة إماراتية ضد الكويت”. أي والله هكذا بكل خبث.
حسب ماكينة التلفيق الإعلامي التي شيدتها الدوحة كان ميدان المؤامرة المزعومة في أروقة البرلمان الأوروبي؛ عبر “لوبي كبير استطاع استصدار إدانات عديدة لدولة الكويت”، وهذا اللوبي “الكبير” تديره الإمارات في بروكسل.
قصة يمكن اختلاقها ثم رميها على قمة السفح الإلكتروني لتتدحرج كرة ثلج تكبر- لولا حقيقة أكبر من السفح الإلكتروني نفسه- غابت عن تفكير العقل المدبر في الدوحة، ومفادها أن أروقة البرلمان الأوروبي مغلقة أمام الندوات والمؤتمرات الخارجية منذ بدء جائحة كورونا وحتى الآن، والأهم أنه يمكن بسهولة التأكد من عدم صدور أي شئ من هذا القبيل ضد الكويت في هذه الفترة عبر الدخول على موقع البرلمان الأوروبي أو لجنته الفرعية لحقوق الإنسان، علاوة على أن البرلمان الأوروبي لم يصدر أي قرارات سلبية او إدانات ضد الكويت، على الأقل منذ سنوات.
لكن مدحرجي الكرة والعابثون بالسياسة يستمرأون اللعب كأي مقامر محترف، فبحثوا عن شخصية أوروبية (أي اسم أعجمي مناسب يمكن اقتناصه من محرك غوغل) لنسب الأكذوبة إليه، وظنهم أن ذلك يمنح الأكذوبة مصداقية تجعلها تتعاظم وتنتشر لتهيمن خبرا يخدع الجماهير، وحتى لو تبين كذبها فيما بعد.
كانت الشخصية نائبا برلمانيا أوروبيا هو إرنست أورتاسن، وهنا ظهر الخطأ جليا والارتباك صارخا، فحسب القائمة الرسمية لمواقفه السياسية في البرلمان الأوروبي، والتي ترصدها القائمة التالية، فإن السيد أورتاسن اتخذ مواقف سلبية، بل وعدائية مثيرة للتساؤل أحيانا، خلال السنوات الماضية ضد الحكومات التالية: الإمارات والمغرب وسوريا والسعودية ومصر والبحرين واليمن وإيران وتركيا وكولومبيا ونيكاراغوا وباكستان وهنغاريا ويوغندا وميانمار والصين وروسيا وبيلاروسيا وبولندا والفلبين وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغينيا كوناكري ومدغشقر والهند وهايتي وإندونيسيا، وكان بالتحديد الأكثر عداءا للإمارات و البحرين والسعودية، خاصة في السنوات الماضية.
https://www.europarl.europa.eu/meps/en/124972/ERNEST_URTASUN/meetings/past
إن مواقف رجل يناصب الإمارات وحلفاءها هذا العداء المستحكم، والمثابر حد الغرابة، تجعل من الصعب تصور أنه أداة بيد الإمارات، ولو افترضنا جدلا أن الرجل يحمل شيئا من التجرد والموضوعية، فهل من المنطق والإنصاف أن سياسيا أوروبيا يدعي الاشتغال بحقوق الإنسان يترك الانتهاكات الواضحة ضد حقوق الإنسان في قطر دون باقي العالم دون أن يحرك ساكنا، وخصوصا في ملف العمالة الشائك والمعقد والضخم، والذي لم تستطع حتى أكثر المنظمات الحقوقية انحيازا لقطر أن تتجاهله.
كرة الثلج التي تلتقط كل القاذورات في طريقها استمرت بالتدحرج، وقوى الدفع من خلفها استمرت في نشر البهتان رغم أن التكذيب هذه المرة جاء من دولة الكويت نفسها، والتي أصدرت وزارة خارجيتها بيانا رسميا نفت فيه التآمر المزعوم من أصله، ورغم ذلك استمر تجار الذمة والضمير في مواقع إلكترونية محسوبة وممولة من الدوحة في نشر الأكاذيب على إيقاع الفتنة بين الإمارات والكويت، ولكن لغة التقارير والصياغات باتت واضحة؛ أمنية أكثر منها صحفية.
على المنهجية “الغوبلزية” بالكذب وتكراره حتى يصدقه الناس، استمرت مؤسسات البروباغاندا المنتفخة مالا قطريا في اعتماد منهجية النازي غوبلز، ولكنها طبقت أساليبه بسذاجة منقطعة النظير، حين قرر موقع “خليج ٢٤” مثلا الرد على النفي الكويتي الرسمي بخبر أسندوه إلى “مصادر كويتية فضلت عدم ذكر اسمها”، وأضافوا أن المصدر المجهول أكد للجريدة أن أسباب النفي الكويتي الرسمي سياسية بحتة!!
فيا سبحان الله الذي أخرج حقيقة مشاعرهم من صلب حمم أكاذيبهم، فنفي النفي هذا يوضح مدى احترام هؤلاء للكويت، وكيف استصغروها وقللوا من شأنها، وهي الأكبر بشجاعة قيادتها وأهلها.
ترى، هل تتوارى دولة مثل الكويت خلف مصدر مجهول النسب لتوضح نفسها في قضية مبنية على الدجل السياسي أصلا! حاشا وكلا بالطبع.
إن استمرار منهجية الافتراء والتضليل من خلال منصات إعلامية متعددة، وتوظيف الأموال لتزييف الحقائق ونشر الأكاذيب ما فتىء جزءا من سياسة الدوحة في المنطقة والعالم، وهذا لا يدلل على غياب النيات الحسنة قبل وبعد اتفاق العلا فحسب، بل يبرهن أيضا أن الدوحة ما زالت مختطفة سياسيا من قبل مليشيات التيار الإخواني وتحالفاته المشبوهة، والتي وجدت في قطر وكرا للحماية السياسية، ومنجما للمال المصبوغ بدماء الأبرياء، ومفرخة لاستيلاد المخططات الآثمة.
إن هذا النمط من التصرفات ليدق جرس الإنذار من جديد عما يحدث داخل البيت الخليجي، والذي يحاول “الخاطفون” في الدوحة تقويضه لينهار وتصبح كل ثرواته الوطنية في خدمة أجنداتهم ومخططاتهم.
إن علاقات الإخاء الضاربة في الأزل تقتضي من قطر أن تثبت استقلالية قرارها وتماهيه مع محيطها الخليجي، وأن ترفض، بل وتحاسب كل الجهات التي اضطلعت بدور في الافتراءات التي فشلت في إشعال الفتنة بين الأشقاء في الإمارات والكويت، وهذا أضعف الإيمان.