فى قمة فيشجراد التى عقدت مؤخرا فى المجر، تناول السيد الرئيس جانبا مهما يتصل بالإشكالية الفلسفية لمفهوم حقوق الإنسان حينما قال: «لسنا فى حاجة إلى أن يقال إن ثمة تجاوزا لدينا فى معايير حقوق الإنسان». والمعروف أن دلالات مفهوم «حقوق الإنسان» تتعدد، بل تختلف وفقا للمعايير الأيديولوجية والثقافية المرتبطة بكل مجتمع إنسانى على حدة، كما أنه من المتصور جدلا الاحتجاج على وضع ما فى أى مجتمع استنادا إلى معيار أيديولوجى أو ثقافى سائد فى مجتمع آخر.
وقد فجر السيد الرئيس تساؤلًا مهمًا: إذا كانت الدول الكبرى حريصة على احترام حقوق الإنسان وتعانى من موجات المهاجرين غير الشرعيين إليها بسبب سوء الأحوال الاقتصادية فى بلادهم، أليس من حقوق الإنسان أن تساهم هذه الدول الأوروبية فى مشروعات الإصلاح الاقتصادى بهذه الدول كى تحسّن من أوضاعها وتقلص بذلك ظاهرة الهجرة غير المشروعة؟.. إن مفهوم حقوق الإنسان لا ينفصم عن طبيعة ومشكلات الواقع الخاص به.
فعندما حقق الآسيويون معجزتهم الاقتصادية وصاروا يتبوأون مكانة عالمية فى مسيرة التقدم العلمى والاقتصادى، ما كان أحد يتصور قبل عام 1960 أن تنهض آسيا الشرقية من غفلتها وهى التى لم تتعد حصتها من الناتج العالمى الخام وقتئذ 4%، بل لم يكن لها قبل هذا التاريخ ـ باستثناء اليابان ـ وجود فى الخريطة الصناعية للعالم.. وإذا بإنتاجها فى أواخر التسعينيات يزيد على نصف الإنتاج الصناعى العالمى!.
وحينما بزغ نجم جزيرة «سنغافورة» فى سماء التفوق الصناعى، كان حاكمها «لى كوان يو»- الذى لقب فيما بعد باسم «الكاهن الأكبر للقيم الآسيوية»- يؤمن بأن أهم حق من حقوق الإنسان هو الحق فى «الاستقرار».
.. وفى ندوة عقدها فى طوكيو عام 1992 قال: «عندما يسافر الآسيويون إلى أمريكا يصدمهم مشهد مؤلم مخيب للآمال: فرغم وجود القانون والنظام هناك تنتشر فى أرجائها المشاغبات والمخدرات والأسلحة وجرائم الاغتصاب والقتل والفقر الشديد فى وسط الغنى الفاحش وحقوق فردية تركل حقوق الجماعة، والمجرمون يفلتون من العقاب لأن القانون يفرط فى حمايتهم باسم حقوق الإنسان!.. أليست حقوق الجماعة هى الأخرى من حقوق الإنسان؟!».
وفى كتاب شهير عنوانه «صدام أوروبا مع آسيا»، للباحث الفرنسى المتخصص فى الشؤون الصينية، بيير أنطوان دونيه، يرى مؤلفه «أن الآسيويين ازداد شعورهم بآسيويتهم عندما بلغوا مرتبة عظيمة فى مسيرة التقدم على الطريقة الغربية». وكان الحفاظ على الاستقرار السياسى والاجتماعى هو الشرط الأساسى للدول الآسيوية لكى تحقق معجزتها الاقتصادية.
أما مطالبات الغرب للدول الآسيوية بالديمقراطية وحقوق الإنسان بوصفهما الحل السحرى المطلق لمشكلات العالم أجمع بغض النظر عن الاختلاف الحضارى بينها، فكانت محل نقد لدى أغلب هذه الدول.. إذ كان حكامها يتساءلون ساخرين: «ما حاجة مئات ملايين الفلاحين فى القرى الآسيوية الوادعة إلى الديمقراطية الغربية؟ إن فلاحينا يحيون حياتهم الخاصة ويعهدون للحكومة المركزية فى العاصمة بأن تقرر عنهم ما هو الأنسب لهم ولبلادهم. لو أن كل فلاح من مئات الملايين من الفلاحين غير المتعلمين سيتدخل بصفته الشخصية وبصوته لكى يحدد من هو الأصلح للبلاد، لسادت الفوضى فيها!».
وفى ديسمبر عام 1994، انعقد مؤتمر دولى لحقوق الإنسان فى كوالالمبور، اتهم فيه مهاتير محمد، الغرب، بأنه يستخدم «الديمقراطية وحقوق الإنسان» بوصفهما قيما كونية مطلقة لكى يحقق أطماعه، مع أن الغربيين لم يلزموا أنفسهم بأيديولوجيا كونية لحقوق الإنسان.. فحقوق البيض كانت تعنى فرض السيادة على غير البيض. كما أن صياغة الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948 قد تمت فى غياب أغلب دول أسيا وإفريقيا المستعمرة فى ذلك الوقت. والآن تضغط الدول الغربية على البلدان النامية لكى تتبنى مفهومها عن حقوق الإنسان تحت طائلة العقوبات الاقتصادية وتعليق المساعدات!.. لكنها تغمض عينيها عن حقوق الإنسان حينما تكون لها مصلحة فى ذلك.