علي مدى اتساع العالم العربي إعتادت الشعوب أن تتبادل طبق الجيران أو طبق الخير أو الطبق الدوار وهو بإختصار أن يقوم الجار بإعطاء جاره طبق قبيل الإفطار ملئ بالطعام أو بحلويات الشهر الكريم فيعيده الأخر إليه ثاني يوم ملئ أيضا بالطعام أو الحلويات وهكذا … تناقلت الأجيال هذه العادة المحمودة وظلت راسخة لعشرات السنين في وجدان البلدان العربية وصارت أحد معالم الشهر الرمضاني بل أنها عادة حميدة إمتدت لأغلب الأعياد سواء الإسلامية منها أو المسيحية وكلها لديها نفس المعنى “نشر المحبة بين الجيران” فالمثل العربي يقول “الجار قبل الدار” وفي الميراث الديني يوصينا الرسول الكريم “بسابع جار” ورقم سبعة في الإنجيل هو رمز الكمال فإذا الحديث الشريف لا يقصد الجار من واحد إلي سبعة بل يقصد كل الجيران مهما إبتعدوا عنك ومهما كان عددهم!
ظلت عادة طبق الجيران مترسخة في الريف المصري واستمرت وإندثرت في المدن حيث زحام المدينة وكتلتها السكانية الكبيرة وجغرافيتها الممتدة وعاداتها التي تفتقد للأصالة كما يعرفها أهل القرية … لكن الحكاية بذخت من جديد في بعض المدن الجديدة وإتخذت من أصالة الماضي إسلوبا مع توظيف أدوات العصر وقواعد المدينة ليعود طبق الجيران من جديد بنكهته المليئة بالمحبة وبروحه الداعمة لتنمية الأعمال الصغيرة التي تناسب مفاهيم المدينة.
في مدينة العبور – حيث أسكن – بادرت سيدتين لإعادة إحياء الفكرة ونشرها في المدينة وهما الاستاذة / ياسمين عماد والدكتورة / آلاء زلط المؤسس الشريك في جروب “عبور بايتس Obour Bites”. من خلال مجموعتها علي الفيسبوك والتي يزيد عدد أعضائها علي ثمانية آلاف عضو وعضوة، طورت الدكتورة آلاء زلط الفكرة وإنطلقت بها ودعت الجروب إلي تبني طبق الجيران كأداة تواصل بين الجيران في أحياء العبور التسعة في شهر رمضان من العام 2020 حيث إنتشار فايروس كورونا أصاب الناس بالإحباط والمخاوف وجعل من إلتزامهم بالبيت نمطا حياتيا غير محبب وهم المعروف عنهم حبهم للحياة والإنطلاق.
سرعان ما إستجابت عضوات الجروب للمبادرة وتنوعت الاطباق ما بين الحلويات إلي المكسرات إلي المحاشي واللحوم وكل ما هو معروف عن وجبات رمضان الكريم. في البداية كانت السيدات تتنقل بسياراتهن لتوزيع طبق الجيران علي أحبابهن ثم تم توظيف شركات الدليفري للقيام بالمهمة. هنا دخل عامل جديد وهو شركات الدليفري التي استفادت من طبق الجيران في تنمية أعمالها بين سكان المدينة.
في العام الثاني لطبق الجيران توسعت المبادرة فبدء يتم التعاقد مع صاحبات المطابخ المنزلية التي تقوم بإعداد الوجبات منزليا كعمل لهن، وأصحاب المطاعم، ومحلات الحلوى والبسكوت، ومحلات الهدايا خاصة المشغولات الفضية وأعمال الديكور … تطور طبق الجيران ليشمل أشكال متنوعة من الهدايا التي تعبر بصدق عن رغبة الجميع في نشر المحبة ومد جسور التواصل للتعارف وكسر قواعد المدينة والتغلب علي حصار كورونا … فصار طبق الجيران بحق جسرا للمحبة وتنمية الأعمال.
إنتشار مبادرة طبق الجيران في مدينة العبور أدى – بدون قصد – إلي تنمية الأعمال الصغيرة فالمطابخ والمطاعم ومحلات الهدايا تم توظيفها، بل تم الإعتماد علي أصحاب هذه الأعمال لكتابة رسائل المحبة من الجار إلي الجار وتغليف الهدايا والتعاقد مع شركات الدليفري لتوصيل طبق الجيران من شمال العبور إلي جنوبها ومن شرقها إلي غربها …
بٌعد أخر لطبق الجيران، فالشهر الكريم جاء هذا العام في ظل الصيام الكبير للمسيحيين فإذا الطبق يراعي الصيام وينتقل من بيت لبيت أو من المطعم إلي البيت وهو يعرف معايير الصيام وشروطه والأكل المسموح به … فطبق الجيران عابر للمكان وللدين وعابر للتقاليد التي حرمت المصريين من المحبة التي إتصف بها المجتمع المصري علي مدى تاريخه لكنها تعود من جديد بروح أصالة الماضي وفي ظل روح التسامح الكامنه داخل النفس البشرية المصرية العريقة.
*هانى ابراهيم مستشار السياسات العامة والمجتمع المدني وتنمية الأعمال الخاصة